تحرير المرأة: نحو رؤية ثورية -بقلم سلوى شاكر عن الحوار المتمدن -
إن أي حديث عن مسألة تحرر المرأة يستلزم بالضرورة وقفة
عند أصل اضطهاد المرأة وبالتالي معرفة الإستراتجية الصحيحة للقضاء عليه
فالرأسمالية كما رآها ماركس وأنجلز ومن لحقهم من الاشتراكيين الثوريين
نظاماً يعتمد في وجوده على اضطهاد المرأة في البيت والعمل، وفي واقع الأمر
أن جذور الاضطهاد بكل أشكاله موجودة في المجتمع الطبقي والرأسمالية، وأي
تفسير بديل لهذه الرؤية يعني محاولة تفسير الاضطهاد على أنه نابع من الحاجة
البيولوجية الذكورية لاضطهاد النساء والسيطرة عليهن، أو أن نقول بأن
اضطهاد السود نابع من أن البيض عنصريين بالوراثة. إن مثل تلك المقولات تعني
بالضرورة أنه ليس أي أمل في إنهاء هذا الاضطهاد، فحاجتنا لفهم أصل
الاضطهاد تنبع من رغبتنا في القضاء عليه، ومن هنا كانت قيمة الماركسية حيث
أنها تزودنا بفهم واضح للصلة الأساسية بين الاضطهاد وبين مصالح الرأسمالية.
فكما بين أنجلز أرتبط اضطهاد المرأة بظهور الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي، وكذلك اعتمدت الرأسمالية على مؤسسة العائلة وعمل المرأة (غير مدفوع الأجر) فيها، كما سيأتي لاحقاً، فإن هذا بالتالي يعني أن اضطهاد المرأة لا يمكن أن ينتهي أو حتى يتم "إصلاحه" في ظل الرأسمالية، ولقد ثبت تاريخياً صدق هذه المقولة فكل الحركات الإصلاحية الضخمة والتي لم تتحدى النظام ذاته خسرت كل أو معظم المكاسب التي حققتها.
ولعل المثال الحي على ذلك هو الحركة النسوية في الستينات في الولايات المتحدة، والتي قامت بتعبئة شعارات تقدمية واستطاعت أيضاً كسب إصلاحات هامة من النظام وبذلك أحيت أمل النساء في المساواة الاجتماعية إلا أنها خسرت الكثير مما حققته الأزمة الاقتصادية في السبعينات، فمثلاً حق الإجهاض مازال في معظم الولايات الأمريكية قانونياً، إلا أن الدعم الحكومي للإجهاض، خاصة بالنسبة للنساء الفقراء الغير قادرات على تحمل التكاليف، قد ألغي في عام 1977، وهذا يعني أن أنه ظل مقصوراً على قلة من النساء وليس الجميع، ومن الأمثلة الأكثر أهمية لهذا التراجع هو استمرار، بل وازدياد التمييز الوظيفي في الولايات المتحدة عما كان عليه منذ 25 عاماً أي قبل قيام الحركة النسوية، ورغم من التحسن الضئيل الذي طرأ على وضع المرأة الاقتصادي.
ولابد هنا من الإشارة أننا لسنا ضد النضال من أجل الإصلاحات، فالاشتراكيون الثوريون يلعبون أدواراً هامة في هذه الإصلاحات ويساندون أولئك الذين يدخلون في صراع ضد النظام لمنحهم مزيداً من القوة، لكن الفرق الجوهري بين الإصلاحيين والثوريين هو أن الإصلاحيين يرون التنازلات والإصلاحات التي يكتسبونها كغاية في حد ذاتها، بينما يرى الثوريون أن النضال للإصلاحات هو جزء من بناء حركة أوسع وأكبر لتلك الحركات تهدف إلى كسبها للاشتراكية الثورية.
وهكذا فإن النضال من أجل تحرر المرأة واكتسابها لحقوقها، بالنسبة للاشتراكيين الثوريين هو تنظيم للصراع من أسفل مبنى على نضال نساء الطبقة العاملة أما بالنسبة للنسويين والإصلاحيين فأنهن يتوجهن إلى السياسيين والمحاكم لتحقيق مطالبهن، فحركة الطبقة الوسطى النسوية (المستفيدة من استمرار الرأسمالية) ترى أن إنهاء اضطهاد المرأة يكمن في النضال لإحلال المساواة بينها وبين الرجل في طبقتها (المتوسطة) وبالفعل فلقد استطاعت خلال العقدين الماضيين تحقيق مكاسب كثيرة أهمها الحصول على مراكز هامة في الوظائف المهنية والإدارية، إلا أن النساء العاملات لم يطرأ على أوضاعهن أي تغيير يذكر فمازالت الغالبية العظمى منهن مركزة في الأعمال الأقل أجراً كما أن فرص الترقي أمامهن تكاد تكون معدومة ولذا فأن النضال من أجل إحلال المساواة بالنسبة لنساء الطبقة العاملة يعني ببساطة حق التساوي في الاستغلال مع رجال الطبقة العاملة!
على الصعيد الأخر، هناك جزء من الحركة النسوية، وهو الأكثر تطرفاً يقدم طرحاً مختلفاً ويتبنى في تفسيره لقضية اضطهاد المرأة النظرية البطريركية، والتي تري أن النظام ألبطريركي (الأبوي) السائد وهو سيطرة الرجال واضطهادهن للنساء هو السبب الأساسي في وضع المرأة ولهذا فإن نظام السيطرة الذكورية يستلزم حركة "كل النساء" ضد "كل الرجال" للنضال من أجل تحرر المرأة وإنها الاضطهاد.
وهذا بالضرورة يعني، كما ذكرنا آنفا، أن مصدر اضطهاد المرأة هو اختلاقها البيولوجي عن الرجل، وبالتالي فإن المنطق الطبيعي لمثل هذا الموقف هو أن كل أشكال الاضطهاد في المجتمع لها أساسها البيولوجي، وبالتالي يستلزم صراعاً منفصلاً في ظل الرأسمالية فأنهن منقسمات لطبقات مختلفة كالرجال تماماً وليس هذا فحسب، بل أن الأخطر من ذلك هو أن تلك الدعوة للتضامن النسائي تتجاهل الاختلافات بين اليمين الذي يحاول تدعيم وتقوية النظام القائم واليسار الذي يناضل ضد هذا النظام. المثال على ذلك موقف الحركة النسوية في أمريكا خلال حرب الخليج، فقد اعتبرن مشاركة المرأة في الجيش الأمريكي وذهابها للمعركة انتصاراً للنساء وتساوياً مع الرجال، وهذا الموقف تضمن تأييداً للحرب الأمريكية ضد العراق.
إن تصور هذه النظرية في شرح وتفسير أسباب وأصل اضطهاد المرأة يجعلها عاجزة أمام وضع إستراتيجية صحيحة للتخلص منه وإنهائه، وحتى أولئك اللاتي يحاولن إرجاع اضطهاد المرأة إلى الأيديولوجية السائدة والتي لها دور هام في اضطهاد المرأة وتثبيت وضعها الأدنى في المجتمع، يعجزن عن تحليل مصدر هذه الأيديولوجية أو كيفية ظهورها.
أخيراً يبقى هناك جزء من الحركة النسوية يدرك قصور النظرية البطريركية في التحليل إلا أنهن يقعن في نفس المأزق عند الحديث عن النضال من أجل تحرر المرأة، فتجدهن يدعون إلى نوعين مختلفين ومنفصلين من النضال، الأول نضال "كل النساء ضد كل الرجال" مستقلاً عن النوع الثاني من النضال الطبقي. وحجتهن في ذلك أن الإستراتيجية المبنية على حركة الطبقة العاملة سوف تجعل مصالح النساء في المرتبة الثانية بالنسبة لقضايا الطبقة العاملة، وبالتالي فإن هذا سوف يؤدي إلى تأجيل تحرر المرأة إلى ما بعد الثورة الاشتراكية وإسقاطه تماماً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النظرية تخالف الماركسية الثورية في وجهة نظرنا، فنحن نرى أن مصالح وحاجات الرأسمالية هي التي خلقت الأساس الموضوعي للاضطهاد، ولهذا فإن التناقص الطبقي وليس الجنسي هو التناقض الرئيسي في المجتمع فالماركسية تدافع عن إستراتيجية صحيحة لتحرر المرأة مبنية على نضال الطبقة العاملة لتحقيق المجتمع الاشتراكي.
والسؤال المطروح هنا، ما هو أول من قدم تفسير ماركسي للعلاقة بين الاستغلال الطبقي والاضطهاد على أساس الجنس، ولهذا فإن نقطة البداية في أي فهم ماركسي لأصل اضطهاد المرأة هو كتاب أنجلز "أصل العائلة".
فكما يرى أنجلز فإن اضطهاد المرأة قد ظهر عند نقطة محددة في التاريخ، وهي تلك التي بدأ فيها المجتمع في الانقسام لطبقات، فالمرأة مضطهدة في كل المجتمعات الطبقية بدون استثناء، ويرجع ذلك إلى أن نكون الطبقات ارتبط بتطور قوي الإنتاج والتي مكنت الإنسان من إنتاج فائض عن احتياجه الأساسي، وهذا الفائض لم يكن ليكفي كل الناس كي يعيشوا فوق حد الكفاف، ولكنه كان كافياً جداً لقلة منهم وهذا بدوره أدى لظهور الملكية الخاصة لأول مرة كشكل اجتماعي.
إلا أن هذا الازدياد في إنتاج الفائض كان مصحوباً بالهوة بين الطبقة المستغلة وتلك المستغلة الذي أدى بدوره إلى نمو تقسيم العمل، وبالتالي فإن أولئك الذين احتلوا مواقع معينة في هذا التقسيم تطورواً ليصبحوا المسيطرين على ذلك الفائض وكان ذلك إيذاناً بظهور أول طبقة مستغلة. عند هذه النقطة صار للاختلاف البيولوجي بين الرجال والنساء أهمية لم يكنها من قبل، وكان لمسألة الحمل والولادة وتربية الأطفال دوراً في توجيه النساء نحو أدواراً إنتاجية بعينها وعزلهن هن أدوار أخرى خاصة تلك التي تمكن الفرد من السعي للحصول على الفائض. فتقسيم العمل على أساس الجنس، والذي كان في الأزمات العابرة لا يعني سيطرة جنس على آخر أصبح الآن ذا دلالة هامة، فالفائض الجديد خلقت في مجال يحكمه الرجال بحيث أصبحوا وحدهم المستفيدين من العمليات الجديدة، فالانقسامات الطبقية بين الجموع الكادحة والقلة المتحكمة في الفائض تزامنت مع تدهور مكانة المرأة الاجتماعية وهكذا نجد أن اضطهاد المرأة ظهر كجزء من نفس العملية التي خلقت الملكية الخاصة، والمجتمع الطبقي والدولة. فاضطهاد المرأة انبثق عن الطريقة التي تطورت بها قوى الإنتاج والتي تستلزم نوعاً محدداً من علاقات الإنتاج.وبالطبع فإنه عندما تؤدي علاقات الإنتاج إلى اضطهاد المرأة فسوف نجد عنها تعبيراً في الأيديولوجية السائدة. فدونية المرأة وتبعيتها للرجل ينظر إليها على أنها جزء من التطور الطبيعي للأشياء، يدعم ذلك ويسانده المعتقدات والأفكار والدين، والإجراءات القانونية..... الخ. وكذلك لا يمكننا فهم تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
فالرأسمالية، وهي أكثر أشكال المجتمع الطبقي ثورية، نسفت وغيرت الكثير من الأشكال المؤسساتية السابقة لها، وخلقت أشكال وأنماط هرمية جديدة تستخدمها في تحقيق هدفها الأساسي وهو التراكم. وهذا ما حدث بالنسبة للعائلة! فالرأسمالية لم تبق العائلة، ومعها اضطهاد المرأة، لرغبتها في الحفاظ عليها، ولكن كان دافعها الوحيد هو الإبقاء على استغلال العمال من أجل تحقيق التراكم، ولهذا كانت العائلة مثل الدين! لها فائدة للرأسمالية طالما أعدت على تحقيق هذا الهدف.
وأهم ما كتبه أنجلز في هذا الموضوع يمكن اختصاره في نقطتين غاية في الأهمية:
أولاً:أن العائلة لم تمن مؤسسة "طبيعية" غير متغيرة، فالفكرة القائلة بأن العائلة النووية الذكورية (زوج وزوجة وأولاد) كانت دائمًا موجودة هي فكرة خاطئة تمامًا، وعلى العكس، فقد ثبت تاريخيًا أنه كانت بالنسبة للمجتمعات الطبقية، فإن أشكال العائلة تباينت بشدة بين الطبقات المختلفة.
ثانيًا: أن التغيرات في بنية العائلة قد ارتبطت بإنتاج الحاجات المادية (الأساسية) للحياة فالإنتاج (الاقتصادي) وإعادة الإنتاج (العائلة) مرتبطين في كل مجتمع، ولهذا فإنه لكل نمط إنتاج ما يقابله من تنظيم للعائلة. وهكذا ففي المجتمعات اللاطبقية، حيث مجموعات الناس تتشارك في العمل وفي الاستفادة من الناتج لم يكن هناك أي اضطهاد للمرأة وأن ظهور العائلة المضطهدة، كما يرى أنجلز، قد تزامن مع ظهور المجتمع الطبقي
ويعني هذا التحليل، ببساطة، أن اضطهاد المرأة ليس أمرًا "طبيعيًا" لابد من حدوثه، وهذا يجعل إمكانية تحرر المرأة أمرًا واقعيًا، ولكن تحقيقها لا يمكن أن ينجز بدون تحدي أساس المجتمع الطبقي، أي بدون الثورة الاشتراكية.
ولكي نتحدث عن اضطهاد المرأة ف ظل الرأسمالية فلابد أن نتعرض للعائلة الرأسمالية، فعلى الرغم من أهمية كتاب أنجلز، إلا أن به قصورًا لابد من معالجته، فلقد بسط أنجلز وظيفة العائلة ودور المرأة فيها في ظل الرأسمالية الحديثة!
فرأي أن دور العائلة يتخلص أساسًا في كونها الأداة التي تنتقل من خلالها الثورة إلى الأبناء. ولهذا فقد خلص إلى أن في الطبقة العاملة، حيث لا توجد ثورة لتوريثها للأبناء، ستخفي العائلة بين العمال.
وهذه النتيجة تهمل حقيقة أساسية، وهي أن العائلة، بهيكلها الذي يستلزم دونية وتبعية المرأة، تلعب دورًا هامًا ورئيسيًا للرأسمالية، حيث أن حاجات الرأسمالية ومصالحها تتطلب وجود مؤسسة تضمن إمدادها بالأيدي العاملة، وكان نتيجة لنمط العائلة الجديد وهو العائلة النووية (زوج وزوجة وأولاد)، وذلك أن هذا النموذج سوف يرضي الحاجات المادية لجيل العمال الموجودين ويتولى مسئولية تنشئة الجيل القادم من العمال. فالرأسمالية رغم تحطيمها للشكل ألبطريركي القديم للعائلة إلا أنها قد احتفظت ببعض العناصر ودمجها في أسرة الطبقة العاملة الجديدة خاصة تلك العناصر المتعلقة بالأيديولوجية القديمة كالدين والأفكار القديمة وغيرها، وذلك لكي تستطيع إقناع العمال والرأسماليين بقبول الشكل الجديد، فحاجة الرأسمالية لضمان استمرارية المدد من قوى العمل، وليست الأيديولوجية البطريركية، هي التي استلزمت وجود هذه العائلة.
والمفترض في هذه العائلة أن تكون مسئولية الرجل أن يعمل ليكسب من الأجر ما يلزم لتوفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة لكل أفراد عائلته، بينما تكون المرأة مسئولة عن تقديم الخدمات الكافية لتنشيط قوة عمل الرجل وإنجاب وتربية الأطفال.
إلا أن هذا النموذج لم يتحقق على أرض الواقع، ذلك أن الرأسمالي يكن ليوافق على أن يدفع "أجر العائلة" للعامل، وبالتالي كان على الزوجات، وتحت الظروف الاقتصادية الصعبة، كان عليهن قبول نوع من الأعمال المتوفرة لهن والتي غالبًا ما تكون موسمية ومؤقتة، بينما يبقى الإنجاب والتربية وأعمال المنزل مسئوليتهن الثانية.
إن اضطهاد النساء في هذا الشكل الجديد ينبع من أنهن مرغمات على الاعتماد على الأزواج، معزولات عن العالم الخارجي، فالطريقة التي تخدم بها العائلة النووية الرأسمالية، بإعادة إنتاج القوى العاملة، هو الأساس المادي لاضطهاد المرأة العاملة، فاعناء تربية الأولاد وأعمال المنزل المختلفة (طهي – غسيل - .....الخ) تعتبر وسيلة رخيصة للمحافظة على قوى العمل، إضافة إلى أن الوظائف التي تؤديها العائلة أصبحت أساسية لوجود الرأسمالية.
وهناك أيضًا بعد أيديولوجي لاضطهاد المرأة يدعم ذلك الأساس المادي، وحين نتحدث عن تلك الأيديولوجية فلابد من الإشارة أنها لم تولد داخل الطبقة العاملة ولكنها مفروضة عليها من أعلى، أي البرجوازية، فكما أكد ماركس، "الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة" لذلك فإن الطريقة التي يرى بها العمال والعاملات أنفسهم وعلاقتهم ببعضهم البعض لا يتحدد فقط بظروفهم المادية ولكن بالأيديولوجية التي أفرزتها الطبقة الحاكمة.
وتلعب العائلة دورًا هامًا في الحفاظ على القيم التقليدية، والتي هي جزء من الأيديولوجية البرجوازية، والتي تخدم في تقوية السيطرة الأيديولوجية الرأسمالية على كل العمال، ففي كثير من الفترات يتقبل العمال الأفكار السائدة مثل العنصرية والتفرقة على أساس الجنس والتي بدورها تضعف وحدة وتضامن الطبقة العاملة.
إن هذه العائلة الجديدة قد خلقت انقسامًا داخل الطبقة العاملة حيث أنها شجعت العمال على تمثل قيم الطبقة الحاكمة وفي نفس الوقت كان انعزال النساء في بيوتهن قد قلل من قدرتهن على النضال والاحتكاك بحركات التحرر مما جعلهن عرضة للأفكار الرجعية في المجتمع فلا غرابة إذًا تظل النساء العاملات يمارسن نفس الدور الرئيسي في العائلة وهن مقتنعات بأهمية في حياتهن رغم إنفراطهن في أعمال أخرى، وتلعب كل وسائل الإعلام والثقافة والتعليم دور رئيسي في تشكيل تلك القناعة، لا غرابة كذلك في أن نجد العمال الذكور يسيطرون على نسائهم ويؤذونهم قولاً وفعلاً (بالضرب مثلاً)، طالما أن الناس نتقبل وتتمثل أفكار الطبقة الحاكمة وتدافع عنها، فالرأسمالية قد لا تحتاج إلى استخدام العنف لكي تثبت وتدفع بأفكارها، فالأفراد هن أنفسهم حملة العنف الذي يفرزه النظام.
إن دخول المرأة سوق العمل وهي مثقلة بالأيديولوجية التي تثبت دونيتها، ودورها الأساسي كزوجة وأم مهما عملت يجعلها عرضة للتمييز الوظيفي وتكون الأعمال الأقل أجرًا والأسوأ ظروفًا من نصيبها خاصة تلك الأعمال التي يطلق عليها "أعمال نسوية" والتي تلعب فيها الصفات الشائعة عن المرأة (كسلبيتها، وضعفها،.....) دورًا هامًا، ولا يغيب عن أذهاننا أن النساء العاملات نرخص أجورهن في ميدان العمل يقدمن خدمة أساسية للاقتصاد الرأسمالي.
إن اضطهاد المرأة دعامة أساسية لنظام يقوم على الاستغلال الطبقي، أي الرأسمالية، ولا يمكن التغلب عليه إلا بنضال موحد...... الطبقة العاملة، فالثورة الاشتراكية لن تنجح بدون أن يكون النضال لتحرر المرأة هما يجعله الرجال والنساء على حد سواء وبدون أن يكون الوعي بأهمية دمج النساء في النضال من أجل الاشتراكية على أساس من المساواة الكاملة، عنصرًا رئيسيًا في الوعي الثوري لكافة المناضلين.
والتاريخ يزودنا بمثال واحد عن سلطة الطبقة العاملة وما يمكنها إنجازه في مجال تحرر المرأة، هذا ألا وهو مثال الثورة الروسية 1917. فلقد أثبتت الثورة الروسية أنه بإزالة الأسس المادية لاضطهاد المرأة (دورها في العائلة) يصبح بإمكان النساء المشاركة على أساس من المساواة في العملية الثورية وبالتالي تحررهن كنساء وكعاملات على حد سواء، فخلال السنوات اللاحقة لثورة 1917 قامت السلطة العمالية باتخاذ العديد من الإجراءات كإنشاء المطاعم الجماعية والحضانات والمغاسل العامة لكي تتمكن النساء ولأول مرة في التاريخ من المشاركة كمواطنات كاملات ومن أخذ أدوار جديدة في تسيير وحدات عملهن والمجتمع ككل. وعلى الرغم من قصر عمر الثورة إلا أن الدروس المستفادة منها كثيرة خاصة ما يتعلق بالمسألة التي بين أيدينا. ولعل أكثر الدروس أهمية على الإطلاق هو الضرورة القصوى لدمج الحاجات والمطالب الخاصة للنساء العاملات في النضال العام لتحقيق الاشتراكية، وإدراك أن الاضطهاد التي تواجهه المرأة العاملة في ظل الرأسمالية يتطلب أساليب خاصة لجذب العاملات للمشاركة في عملية تحررهن. لإدراك قيادات البلاشفة لأهمية ذلك أنشأوا مكتب وجريدة "المرأة العاملة"، ولم يكن هذا يعني خلق منظمات منفصلة خاصة بالنساء لأنهم (البلاشفة) أدركوا أن الفصل بين النضال ضد الاضطهاد وبين النضال ضد الاستغلال سيضعف كلا النضالين كما رأوا أن إي تنظيم يحمكه التزام بمجموعة من الأفكار وانتماؤه الطبقي، ولذلك فإن مطالب النساء العاملات خلال تلك الفترة كالحق في أجازة الوضع ووجود حضانات في المصانع، كانت ترفع في الإطار العام لنضال الطبقة العاملة. وكان الطريق لتحقيق ذلك هو إقناع العمال الذكور بأن النضال من أجل تحرر المرأة يعود بالفائدة على كل الطبقة العاملة، وإقناع النساء العاملات بأن التحرر الحقيقي للمرأة لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاشتراكية.
وبهزيمة الثورة في نهاية العشرينات نتيجة لظروف العزلة والتخلف والحرب الأهلية، بدأت الأفكار الرجعية بالظهور مرة أخرى، وبالطبع فإن ذلك انعكس على مسألة تحرر المرأة، وخاصة مع تماسك قوى البيروقراطية الستالينية، فلقد أنكرت تلك القوى على النساء كل الحقوق التي تمت اكتسابها خلال الثورة، فخلال الثلاثينات أصبح الإجهاض غير قانوني، ووضعت عقبات كثيرة أمام الطلاق، وبدأت ستالين ينادي "بالعائلة السوفيتية الجديدة" والتي لم تكن سوى العائلة البرجوازية تحت مسمى جديد. فمجيء الستالينية حدد بداية حقبة من التصنيع المكثف في روسيا، وكذلك تثبيت البيروقراطية ونظام رأسمالية الدولة. وتحت نفوذ الطبقة الحاكمة الجديدة (بيروقراطية الدولة) أضحى الجميع، النساء وكل الطبقة العاملة، ضحية للنظام. وهكذا، فإن الستالينية أصبحت الراية التي استطاعت تحتها البيروقراطية تثبيت ثورتها المضادة خلال الثلاثينات. ومن خلال تلك العملية تمكنت الطبقة البيروقراطية الحاكمة من تحويل الاشتراكية الثورية وسلطة العمال إلى نقيضها، حيث سيطرة الدولة والقهر والاضطهاد.
ومن المهم أن نفهم آثار هزيمة الثورة الروسية لأن موقف الحركات النسوية المعادي لاشتراكية مبنى على أساس اضطهاد المرأة في دول يطلق عليها البلدان الاشتراكية مثل روسيًا وكوبا والصين. فهن يرددن بأنه طالما بقى اضطهاد المرأة. ولكن، وكما ذكرنا سابقًا، أن الستالينية في روسيا أو أي نظام يقوم على رأسمالية الدولة في أي من الدول المشابهة لا يمت بصلة للماركسية الثورية، فكما حققت الثورة الاشتراكية في روسيا مكاسب، فكما أن اضطهاد النساء أساسي للرأسمالية فإنه أيضًا أساسي في نظام رأسمالية الدولة في تلك الدول.
وهذا الطرح الستاليني وجد له صدى كبيرًا في كل التنظيمات الموجودة خلال العقدين الماضيين، وما يعنينا هنا هو موقف تلك التنظيمات من قضية تحرر المرأة، فتهميش قضية المرأة في طرح تلك التنظيمات انعكس سلبًا في العديد من القضايا الأخرى ابتداء من موقع النساء داخل تلك التنظيمات ونوعية الأعمال المنوطة بهن (كأعمال السكرتارية) وعزلهن عن المواقع القيادية التي بقت في معظم الأحيان قصرًا على الرجال، وكلك عزلهن عن الدوائر النظرية فلم تكن لهن إضافات أو كتابات نظرية مثل التي كانت للرجال. أما الأمر الأكثر خطورة فكان أن توجه تلك التنظيمات للعمال قد كان قاصرًا على العمال الذكور دون العاملات وهذا يعني بالضرورة تكريس الانقسام داخل الطبقة العاملة.
ولهذا، فإن ما نحتاجه في هذه المرحلة تنظيم ثوري قادر على جذب وتنظيم الاشتراكيين في حركة متماسكة تسعى للتأثر في مسار الحركة العمالية، من خلال إقناع العمال بأن أفكار الطبقة الحاكمة ضد مصلحتهم وكذلك بأن هناك بديلاً للرأسمالية وبأنهم، العمال، وحدهم القادرون على تحقيق هذا البديل. وهذا التنظيم يعتبر مسألة تحرر المرأة جزء أساسي من برنامجهم ومن طرحهم وممارساتهم داخل التنظيم وخارجه لأنه يرى أن النساء يمثلن جزء أساسي من الطبقة العاملة وأن إسقاط أو تهميش هذه القضية يثبت الانقسام ويقلل إمكانية توحيد نضال العاملة.
وكذلك نحن مدركون تمامًا بأن كسر سيطرة الأيديولوجية البرجوازية وما تحمله للعمال من تصورات وقناعات خاطئة ضد المرأة عملية صعبة وتحتاج إلى حركة قوية قادرة على إقناع العمال بأن النضال من أجل تحرر المرأة سوف يخدم نضال الطبقة العاملة ككل.
وأيضًا بأن تحرر المرأة الكامل لن يكون ممكنًا إلا في المجتمع الاشتراكي ولكن هذا لا يعني بأي حال أن نطلب من النساء الانتظار لما بعد الثورة للنضال من أجل حقوقهن، بل أن العكس هو الصحيح، فالاشتراكيون الثوريون يسعون لربط النضال ضد اضطهاد المرأة بالنضال الطويل الأجل من أجل تحويل المجتمع إلى الاشتراكية. فنحن نؤمن بأنه كما أن تحرر المرأة غير ممكن بدون الاشتراكية فإن الاشتراكية غير ممكنة بدون تحرر المرأة.
فكما بين أنجلز أرتبط اضطهاد المرأة بظهور الملكية الخاصة والمجتمع الطبقي، وكذلك اعتمدت الرأسمالية على مؤسسة العائلة وعمل المرأة (غير مدفوع الأجر) فيها، كما سيأتي لاحقاً، فإن هذا بالتالي يعني أن اضطهاد المرأة لا يمكن أن ينتهي أو حتى يتم "إصلاحه" في ظل الرأسمالية، ولقد ثبت تاريخياً صدق هذه المقولة فكل الحركات الإصلاحية الضخمة والتي لم تتحدى النظام ذاته خسرت كل أو معظم المكاسب التي حققتها.
ولعل المثال الحي على ذلك هو الحركة النسوية في الستينات في الولايات المتحدة، والتي قامت بتعبئة شعارات تقدمية واستطاعت أيضاً كسب إصلاحات هامة من النظام وبذلك أحيت أمل النساء في المساواة الاجتماعية إلا أنها خسرت الكثير مما حققته الأزمة الاقتصادية في السبعينات، فمثلاً حق الإجهاض مازال في معظم الولايات الأمريكية قانونياً، إلا أن الدعم الحكومي للإجهاض، خاصة بالنسبة للنساء الفقراء الغير قادرات على تحمل التكاليف، قد ألغي في عام 1977، وهذا يعني أن أنه ظل مقصوراً على قلة من النساء وليس الجميع، ومن الأمثلة الأكثر أهمية لهذا التراجع هو استمرار، بل وازدياد التمييز الوظيفي في الولايات المتحدة عما كان عليه منذ 25 عاماً أي قبل قيام الحركة النسوية، ورغم من التحسن الضئيل الذي طرأ على وضع المرأة الاقتصادي.
ولابد هنا من الإشارة أننا لسنا ضد النضال من أجل الإصلاحات، فالاشتراكيون الثوريون يلعبون أدواراً هامة في هذه الإصلاحات ويساندون أولئك الذين يدخلون في صراع ضد النظام لمنحهم مزيداً من القوة، لكن الفرق الجوهري بين الإصلاحيين والثوريين هو أن الإصلاحيين يرون التنازلات والإصلاحات التي يكتسبونها كغاية في حد ذاتها، بينما يرى الثوريون أن النضال للإصلاحات هو جزء من بناء حركة أوسع وأكبر لتلك الحركات تهدف إلى كسبها للاشتراكية الثورية.
وهكذا فإن النضال من أجل تحرر المرأة واكتسابها لحقوقها، بالنسبة للاشتراكيين الثوريين هو تنظيم للصراع من أسفل مبنى على نضال نساء الطبقة العاملة أما بالنسبة للنسويين والإصلاحيين فأنهن يتوجهن إلى السياسيين والمحاكم لتحقيق مطالبهن، فحركة الطبقة الوسطى النسوية (المستفيدة من استمرار الرأسمالية) ترى أن إنهاء اضطهاد المرأة يكمن في النضال لإحلال المساواة بينها وبين الرجل في طبقتها (المتوسطة) وبالفعل فلقد استطاعت خلال العقدين الماضيين تحقيق مكاسب كثيرة أهمها الحصول على مراكز هامة في الوظائف المهنية والإدارية، إلا أن النساء العاملات لم يطرأ على أوضاعهن أي تغيير يذكر فمازالت الغالبية العظمى منهن مركزة في الأعمال الأقل أجراً كما أن فرص الترقي أمامهن تكاد تكون معدومة ولذا فأن النضال من أجل إحلال المساواة بالنسبة لنساء الطبقة العاملة يعني ببساطة حق التساوي في الاستغلال مع رجال الطبقة العاملة!
على الصعيد الأخر، هناك جزء من الحركة النسوية، وهو الأكثر تطرفاً يقدم طرحاً مختلفاً ويتبنى في تفسيره لقضية اضطهاد المرأة النظرية البطريركية، والتي تري أن النظام ألبطريركي (الأبوي) السائد وهو سيطرة الرجال واضطهادهن للنساء هو السبب الأساسي في وضع المرأة ولهذا فإن نظام السيطرة الذكورية يستلزم حركة "كل النساء" ضد "كل الرجال" للنضال من أجل تحرر المرأة وإنها الاضطهاد.
وهذا بالضرورة يعني، كما ذكرنا آنفا، أن مصدر اضطهاد المرأة هو اختلاقها البيولوجي عن الرجل، وبالتالي فإن المنطق الطبيعي لمثل هذا الموقف هو أن كل أشكال الاضطهاد في المجتمع لها أساسها البيولوجي، وبالتالي يستلزم صراعاً منفصلاً في ظل الرأسمالية فأنهن منقسمات لطبقات مختلفة كالرجال تماماً وليس هذا فحسب، بل أن الأخطر من ذلك هو أن تلك الدعوة للتضامن النسائي تتجاهل الاختلافات بين اليمين الذي يحاول تدعيم وتقوية النظام القائم واليسار الذي يناضل ضد هذا النظام. المثال على ذلك موقف الحركة النسوية في أمريكا خلال حرب الخليج، فقد اعتبرن مشاركة المرأة في الجيش الأمريكي وذهابها للمعركة انتصاراً للنساء وتساوياً مع الرجال، وهذا الموقف تضمن تأييداً للحرب الأمريكية ضد العراق.
إن تصور هذه النظرية في شرح وتفسير أسباب وأصل اضطهاد المرأة يجعلها عاجزة أمام وضع إستراتيجية صحيحة للتخلص منه وإنهائه، وحتى أولئك اللاتي يحاولن إرجاع اضطهاد المرأة إلى الأيديولوجية السائدة والتي لها دور هام في اضطهاد المرأة وتثبيت وضعها الأدنى في المجتمع، يعجزن عن تحليل مصدر هذه الأيديولوجية أو كيفية ظهورها.
أخيراً يبقى هناك جزء من الحركة النسوية يدرك قصور النظرية البطريركية في التحليل إلا أنهن يقعن في نفس المأزق عند الحديث عن النضال من أجل تحرر المرأة، فتجدهن يدعون إلى نوعين مختلفين ومنفصلين من النضال، الأول نضال "كل النساء ضد كل الرجال" مستقلاً عن النوع الثاني من النضال الطبقي. وحجتهن في ذلك أن الإستراتيجية المبنية على حركة الطبقة العاملة سوف تجعل مصالح النساء في المرتبة الثانية بالنسبة لقضايا الطبقة العاملة، وبالتالي فإن هذا سوف يؤدي إلى تأجيل تحرر المرأة إلى ما بعد الثورة الاشتراكية وإسقاطه تماماً.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن هذه النظرية تخالف الماركسية الثورية في وجهة نظرنا، فنحن نرى أن مصالح وحاجات الرأسمالية هي التي خلقت الأساس الموضوعي للاضطهاد، ولهذا فإن التناقص الطبقي وليس الجنسي هو التناقض الرئيسي في المجتمع فالماركسية تدافع عن إستراتيجية صحيحة لتحرر المرأة مبنية على نضال الطبقة العاملة لتحقيق المجتمع الاشتراكي.
والسؤال المطروح هنا، ما هو أول من قدم تفسير ماركسي للعلاقة بين الاستغلال الطبقي والاضطهاد على أساس الجنس، ولهذا فإن نقطة البداية في أي فهم ماركسي لأصل اضطهاد المرأة هو كتاب أنجلز "أصل العائلة".
فكما يرى أنجلز فإن اضطهاد المرأة قد ظهر عند نقطة محددة في التاريخ، وهي تلك التي بدأ فيها المجتمع في الانقسام لطبقات، فالمرأة مضطهدة في كل المجتمعات الطبقية بدون استثناء، ويرجع ذلك إلى أن نكون الطبقات ارتبط بتطور قوي الإنتاج والتي مكنت الإنسان من إنتاج فائض عن احتياجه الأساسي، وهذا الفائض لم يكن ليكفي كل الناس كي يعيشوا فوق حد الكفاف، ولكنه كان كافياً جداً لقلة منهم وهذا بدوره أدى لظهور الملكية الخاصة لأول مرة كشكل اجتماعي.
إلا أن هذا الازدياد في إنتاج الفائض كان مصحوباً بالهوة بين الطبقة المستغلة وتلك المستغلة الذي أدى بدوره إلى نمو تقسيم العمل، وبالتالي فإن أولئك الذين احتلوا مواقع معينة في هذا التقسيم تطورواً ليصبحوا المسيطرين على ذلك الفائض وكان ذلك إيذاناً بظهور أول طبقة مستغلة. عند هذه النقطة صار للاختلاف البيولوجي بين الرجال والنساء أهمية لم يكنها من قبل، وكان لمسألة الحمل والولادة وتربية الأطفال دوراً في توجيه النساء نحو أدواراً إنتاجية بعينها وعزلهن هن أدوار أخرى خاصة تلك التي تمكن الفرد من السعي للحصول على الفائض. فتقسيم العمل على أساس الجنس، والذي كان في الأزمات العابرة لا يعني سيطرة جنس على آخر أصبح الآن ذا دلالة هامة، فالفائض الجديد خلقت في مجال يحكمه الرجال بحيث أصبحوا وحدهم المستفيدين من العمليات الجديدة، فالانقسامات الطبقية بين الجموع الكادحة والقلة المتحكمة في الفائض تزامنت مع تدهور مكانة المرأة الاجتماعية وهكذا نجد أن اضطهاد المرأة ظهر كجزء من نفس العملية التي خلقت الملكية الخاصة، والمجتمع الطبقي والدولة. فاضطهاد المرأة انبثق عن الطريقة التي تطورت بها قوى الإنتاج والتي تستلزم نوعاً محدداً من علاقات الإنتاج.وبالطبع فإنه عندما تؤدي علاقات الإنتاج إلى اضطهاد المرأة فسوف نجد عنها تعبيراً في الأيديولوجية السائدة. فدونية المرأة وتبعيتها للرجل ينظر إليها على أنها جزء من التطور الطبيعي للأشياء، يدعم ذلك ويسانده المعتقدات والأفكار والدين، والإجراءات القانونية..... الخ. وكذلك لا يمكننا فهم تطور قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج.
فالرأسمالية، وهي أكثر أشكال المجتمع الطبقي ثورية، نسفت وغيرت الكثير من الأشكال المؤسساتية السابقة لها، وخلقت أشكال وأنماط هرمية جديدة تستخدمها في تحقيق هدفها الأساسي وهو التراكم. وهذا ما حدث بالنسبة للعائلة! فالرأسمالية لم تبق العائلة، ومعها اضطهاد المرأة، لرغبتها في الحفاظ عليها، ولكن كان دافعها الوحيد هو الإبقاء على استغلال العمال من أجل تحقيق التراكم، ولهذا كانت العائلة مثل الدين! لها فائدة للرأسمالية طالما أعدت على تحقيق هذا الهدف.
وأهم ما كتبه أنجلز في هذا الموضوع يمكن اختصاره في نقطتين غاية في الأهمية:
أولاً:أن العائلة لم تمن مؤسسة "طبيعية" غير متغيرة، فالفكرة القائلة بأن العائلة النووية الذكورية (زوج وزوجة وأولاد) كانت دائمًا موجودة هي فكرة خاطئة تمامًا، وعلى العكس، فقد ثبت تاريخيًا أنه كانت بالنسبة للمجتمعات الطبقية، فإن أشكال العائلة تباينت بشدة بين الطبقات المختلفة.
ثانيًا: أن التغيرات في بنية العائلة قد ارتبطت بإنتاج الحاجات المادية (الأساسية) للحياة فالإنتاج (الاقتصادي) وإعادة الإنتاج (العائلة) مرتبطين في كل مجتمع، ولهذا فإنه لكل نمط إنتاج ما يقابله من تنظيم للعائلة. وهكذا ففي المجتمعات اللاطبقية، حيث مجموعات الناس تتشارك في العمل وفي الاستفادة من الناتج لم يكن هناك أي اضطهاد للمرأة وأن ظهور العائلة المضطهدة، كما يرى أنجلز، قد تزامن مع ظهور المجتمع الطبقي
ويعني هذا التحليل، ببساطة، أن اضطهاد المرأة ليس أمرًا "طبيعيًا" لابد من حدوثه، وهذا يجعل إمكانية تحرر المرأة أمرًا واقعيًا، ولكن تحقيقها لا يمكن أن ينجز بدون تحدي أساس المجتمع الطبقي، أي بدون الثورة الاشتراكية.
ولكي نتحدث عن اضطهاد المرأة ف ظل الرأسمالية فلابد أن نتعرض للعائلة الرأسمالية، فعلى الرغم من أهمية كتاب أنجلز، إلا أن به قصورًا لابد من معالجته، فلقد بسط أنجلز وظيفة العائلة ودور المرأة فيها في ظل الرأسمالية الحديثة!
فرأي أن دور العائلة يتخلص أساسًا في كونها الأداة التي تنتقل من خلالها الثورة إلى الأبناء. ولهذا فقد خلص إلى أن في الطبقة العاملة، حيث لا توجد ثورة لتوريثها للأبناء، ستخفي العائلة بين العمال.
وهذه النتيجة تهمل حقيقة أساسية، وهي أن العائلة، بهيكلها الذي يستلزم دونية وتبعية المرأة، تلعب دورًا هامًا ورئيسيًا للرأسمالية، حيث أن حاجات الرأسمالية ومصالحها تتطلب وجود مؤسسة تضمن إمدادها بالأيدي العاملة، وكان نتيجة لنمط العائلة الجديد وهو العائلة النووية (زوج وزوجة وأولاد)، وذلك أن هذا النموذج سوف يرضي الحاجات المادية لجيل العمال الموجودين ويتولى مسئولية تنشئة الجيل القادم من العمال. فالرأسمالية رغم تحطيمها للشكل ألبطريركي القديم للعائلة إلا أنها قد احتفظت ببعض العناصر ودمجها في أسرة الطبقة العاملة الجديدة خاصة تلك العناصر المتعلقة بالأيديولوجية القديمة كالدين والأفكار القديمة وغيرها، وذلك لكي تستطيع إقناع العمال والرأسماليين بقبول الشكل الجديد، فحاجة الرأسمالية لضمان استمرارية المدد من قوى العمل، وليست الأيديولوجية البطريركية، هي التي استلزمت وجود هذه العائلة.
والمفترض في هذه العائلة أن تكون مسئولية الرجل أن يعمل ليكسب من الأجر ما يلزم لتوفير الحد الأدنى من مستوى المعيشة لكل أفراد عائلته، بينما تكون المرأة مسئولة عن تقديم الخدمات الكافية لتنشيط قوة عمل الرجل وإنجاب وتربية الأطفال.
إلا أن هذا النموذج لم يتحقق على أرض الواقع، ذلك أن الرأسمالي يكن ليوافق على أن يدفع "أجر العائلة" للعامل، وبالتالي كان على الزوجات، وتحت الظروف الاقتصادية الصعبة، كان عليهن قبول نوع من الأعمال المتوفرة لهن والتي غالبًا ما تكون موسمية ومؤقتة، بينما يبقى الإنجاب والتربية وأعمال المنزل مسئوليتهن الثانية.
إن اضطهاد النساء في هذا الشكل الجديد ينبع من أنهن مرغمات على الاعتماد على الأزواج، معزولات عن العالم الخارجي، فالطريقة التي تخدم بها العائلة النووية الرأسمالية، بإعادة إنتاج القوى العاملة، هو الأساس المادي لاضطهاد المرأة العاملة، فاعناء تربية الأولاد وأعمال المنزل المختلفة (طهي – غسيل - .....الخ) تعتبر وسيلة رخيصة للمحافظة على قوى العمل، إضافة إلى أن الوظائف التي تؤديها العائلة أصبحت أساسية لوجود الرأسمالية.
وهناك أيضًا بعد أيديولوجي لاضطهاد المرأة يدعم ذلك الأساس المادي، وحين نتحدث عن تلك الأيديولوجية فلابد من الإشارة أنها لم تولد داخل الطبقة العاملة ولكنها مفروضة عليها من أعلى، أي البرجوازية، فكما أكد ماركس، "الأفكار السائدة هي أفكار الطبقة الحاكمة" لذلك فإن الطريقة التي يرى بها العمال والعاملات أنفسهم وعلاقتهم ببعضهم البعض لا يتحدد فقط بظروفهم المادية ولكن بالأيديولوجية التي أفرزتها الطبقة الحاكمة.
وتلعب العائلة دورًا هامًا في الحفاظ على القيم التقليدية، والتي هي جزء من الأيديولوجية البرجوازية، والتي تخدم في تقوية السيطرة الأيديولوجية الرأسمالية على كل العمال، ففي كثير من الفترات يتقبل العمال الأفكار السائدة مثل العنصرية والتفرقة على أساس الجنس والتي بدورها تضعف وحدة وتضامن الطبقة العاملة.
إن هذه العائلة الجديدة قد خلقت انقسامًا داخل الطبقة العاملة حيث أنها شجعت العمال على تمثل قيم الطبقة الحاكمة وفي نفس الوقت كان انعزال النساء في بيوتهن قد قلل من قدرتهن على النضال والاحتكاك بحركات التحرر مما جعلهن عرضة للأفكار الرجعية في المجتمع فلا غرابة إذًا تظل النساء العاملات يمارسن نفس الدور الرئيسي في العائلة وهن مقتنعات بأهمية في حياتهن رغم إنفراطهن في أعمال أخرى، وتلعب كل وسائل الإعلام والثقافة والتعليم دور رئيسي في تشكيل تلك القناعة، لا غرابة كذلك في أن نجد العمال الذكور يسيطرون على نسائهم ويؤذونهم قولاً وفعلاً (بالضرب مثلاً)، طالما أن الناس نتقبل وتتمثل أفكار الطبقة الحاكمة وتدافع عنها، فالرأسمالية قد لا تحتاج إلى استخدام العنف لكي تثبت وتدفع بأفكارها، فالأفراد هن أنفسهم حملة العنف الذي يفرزه النظام.
إن دخول المرأة سوق العمل وهي مثقلة بالأيديولوجية التي تثبت دونيتها، ودورها الأساسي كزوجة وأم مهما عملت يجعلها عرضة للتمييز الوظيفي وتكون الأعمال الأقل أجرًا والأسوأ ظروفًا من نصيبها خاصة تلك الأعمال التي يطلق عليها "أعمال نسوية" والتي تلعب فيها الصفات الشائعة عن المرأة (كسلبيتها، وضعفها،.....) دورًا هامًا، ولا يغيب عن أذهاننا أن النساء العاملات نرخص أجورهن في ميدان العمل يقدمن خدمة أساسية للاقتصاد الرأسمالي.
إن اضطهاد المرأة دعامة أساسية لنظام يقوم على الاستغلال الطبقي، أي الرأسمالية، ولا يمكن التغلب عليه إلا بنضال موحد...... الطبقة العاملة، فالثورة الاشتراكية لن تنجح بدون أن يكون النضال لتحرر المرأة هما يجعله الرجال والنساء على حد سواء وبدون أن يكون الوعي بأهمية دمج النساء في النضال من أجل الاشتراكية على أساس من المساواة الكاملة، عنصرًا رئيسيًا في الوعي الثوري لكافة المناضلين.
والتاريخ يزودنا بمثال واحد عن سلطة الطبقة العاملة وما يمكنها إنجازه في مجال تحرر المرأة، هذا ألا وهو مثال الثورة الروسية 1917. فلقد أثبتت الثورة الروسية أنه بإزالة الأسس المادية لاضطهاد المرأة (دورها في العائلة) يصبح بإمكان النساء المشاركة على أساس من المساواة في العملية الثورية وبالتالي تحررهن كنساء وكعاملات على حد سواء، فخلال السنوات اللاحقة لثورة 1917 قامت السلطة العمالية باتخاذ العديد من الإجراءات كإنشاء المطاعم الجماعية والحضانات والمغاسل العامة لكي تتمكن النساء ولأول مرة في التاريخ من المشاركة كمواطنات كاملات ومن أخذ أدوار جديدة في تسيير وحدات عملهن والمجتمع ككل. وعلى الرغم من قصر عمر الثورة إلا أن الدروس المستفادة منها كثيرة خاصة ما يتعلق بالمسألة التي بين أيدينا. ولعل أكثر الدروس أهمية على الإطلاق هو الضرورة القصوى لدمج الحاجات والمطالب الخاصة للنساء العاملات في النضال العام لتحقيق الاشتراكية، وإدراك أن الاضطهاد التي تواجهه المرأة العاملة في ظل الرأسمالية يتطلب أساليب خاصة لجذب العاملات للمشاركة في عملية تحررهن. لإدراك قيادات البلاشفة لأهمية ذلك أنشأوا مكتب وجريدة "المرأة العاملة"، ولم يكن هذا يعني خلق منظمات منفصلة خاصة بالنساء لأنهم (البلاشفة) أدركوا أن الفصل بين النضال ضد الاضطهاد وبين النضال ضد الاستغلال سيضعف كلا النضالين كما رأوا أن إي تنظيم يحمكه التزام بمجموعة من الأفكار وانتماؤه الطبقي، ولذلك فإن مطالب النساء العاملات خلال تلك الفترة كالحق في أجازة الوضع ووجود حضانات في المصانع، كانت ترفع في الإطار العام لنضال الطبقة العاملة. وكان الطريق لتحقيق ذلك هو إقناع العمال الذكور بأن النضال من أجل تحرر المرأة يعود بالفائدة على كل الطبقة العاملة، وإقناع النساء العاملات بأن التحرر الحقيقي للمرأة لا يمكن تحقيقه إلا من خلال الاشتراكية.
وبهزيمة الثورة في نهاية العشرينات نتيجة لظروف العزلة والتخلف والحرب الأهلية، بدأت الأفكار الرجعية بالظهور مرة أخرى، وبالطبع فإن ذلك انعكس على مسألة تحرر المرأة، وخاصة مع تماسك قوى البيروقراطية الستالينية، فلقد أنكرت تلك القوى على النساء كل الحقوق التي تمت اكتسابها خلال الثورة، فخلال الثلاثينات أصبح الإجهاض غير قانوني، ووضعت عقبات كثيرة أمام الطلاق، وبدأت ستالين ينادي "بالعائلة السوفيتية الجديدة" والتي لم تكن سوى العائلة البرجوازية تحت مسمى جديد. فمجيء الستالينية حدد بداية حقبة من التصنيع المكثف في روسيا، وكذلك تثبيت البيروقراطية ونظام رأسمالية الدولة. وتحت نفوذ الطبقة الحاكمة الجديدة (بيروقراطية الدولة) أضحى الجميع، النساء وكل الطبقة العاملة، ضحية للنظام. وهكذا، فإن الستالينية أصبحت الراية التي استطاعت تحتها البيروقراطية تثبيت ثورتها المضادة خلال الثلاثينات. ومن خلال تلك العملية تمكنت الطبقة البيروقراطية الحاكمة من تحويل الاشتراكية الثورية وسلطة العمال إلى نقيضها، حيث سيطرة الدولة والقهر والاضطهاد.
ومن المهم أن نفهم آثار هزيمة الثورة الروسية لأن موقف الحركات النسوية المعادي لاشتراكية مبنى على أساس اضطهاد المرأة في دول يطلق عليها البلدان الاشتراكية مثل روسيًا وكوبا والصين. فهن يرددن بأنه طالما بقى اضطهاد المرأة. ولكن، وكما ذكرنا سابقًا، أن الستالينية في روسيا أو أي نظام يقوم على رأسمالية الدولة في أي من الدول المشابهة لا يمت بصلة للماركسية الثورية، فكما حققت الثورة الاشتراكية في روسيا مكاسب، فكما أن اضطهاد النساء أساسي للرأسمالية فإنه أيضًا أساسي في نظام رأسمالية الدولة في تلك الدول.
وهذا الطرح الستاليني وجد له صدى كبيرًا في كل التنظيمات الموجودة خلال العقدين الماضيين، وما يعنينا هنا هو موقف تلك التنظيمات من قضية تحرر المرأة، فتهميش قضية المرأة في طرح تلك التنظيمات انعكس سلبًا في العديد من القضايا الأخرى ابتداء من موقع النساء داخل تلك التنظيمات ونوعية الأعمال المنوطة بهن (كأعمال السكرتارية) وعزلهن عن المواقع القيادية التي بقت في معظم الأحيان قصرًا على الرجال، وكلك عزلهن عن الدوائر النظرية فلم تكن لهن إضافات أو كتابات نظرية مثل التي كانت للرجال. أما الأمر الأكثر خطورة فكان أن توجه تلك التنظيمات للعمال قد كان قاصرًا على العمال الذكور دون العاملات وهذا يعني بالضرورة تكريس الانقسام داخل الطبقة العاملة.
ولهذا، فإن ما نحتاجه في هذه المرحلة تنظيم ثوري قادر على جذب وتنظيم الاشتراكيين في حركة متماسكة تسعى للتأثر في مسار الحركة العمالية، من خلال إقناع العمال بأن أفكار الطبقة الحاكمة ضد مصلحتهم وكذلك بأن هناك بديلاً للرأسمالية وبأنهم، العمال، وحدهم القادرون على تحقيق هذا البديل. وهذا التنظيم يعتبر مسألة تحرر المرأة جزء أساسي من برنامجهم ومن طرحهم وممارساتهم داخل التنظيم وخارجه لأنه يرى أن النساء يمثلن جزء أساسي من الطبقة العاملة وأن إسقاط أو تهميش هذه القضية يثبت الانقسام ويقلل إمكانية توحيد نضال العاملة.
وكذلك نحن مدركون تمامًا بأن كسر سيطرة الأيديولوجية البرجوازية وما تحمله للعمال من تصورات وقناعات خاطئة ضد المرأة عملية صعبة وتحتاج إلى حركة قوية قادرة على إقناع العمال بأن النضال من أجل تحرر المرأة سوف يخدم نضال الطبقة العاملة ككل.
وأيضًا بأن تحرر المرأة الكامل لن يكون ممكنًا إلا في المجتمع الاشتراكي ولكن هذا لا يعني بأي حال أن نطلب من النساء الانتظار لما بعد الثورة للنضال من أجل حقوقهن، بل أن العكس هو الصحيح، فالاشتراكيون الثوريون يسعون لربط النضال ضد اضطهاد المرأة بالنضال الطويل الأجل من أجل تحويل المجتمع إلى الاشتراكية. فنحن نؤمن بأنه كما أن تحرر المرأة غير ممكن بدون الاشتراكية فإن الاشتراكية غير ممكنة بدون تحرر المرأة.