الاسس الأولية، لمبادئ علم النفس الماركسي-عن صفحة ثقافة ماركسية
1- مبدأ الحتمية
وعلى الرغم من الاختلافات بين عدد من الماركسيين في عدد من المسائل في علم
النفس، فإن المبادئ التي انطلقوا منها في صياغة مبادئ واسس علم النفس، والنظريات الماركسية في هذا العلم، والأسس التي بنوا عليها آراءهم لم تكن موضوع خلاف.
ان النفس هي نتاج تطور الكائنات الحية وتفاعلها مع العالم الخارجي، والوعي هو شكلها الأرقى الذي يميّز الإنسان عن سواه من الأحياء. وهذا يعني أن ما يحدّد النفس هو نمط الحياة التي يحياها الكائن الحيّ. فالنفس الحيوانية تخضع في نشأتها وتطورها إلى القوانين البيولوجية التي تتمثل في عملية التكيف مع الشروط الطبيعية المحيطة بالحيوان.
أما النفس الإنسانية فإن ما يحددها ليس قانون الاصطفاء الطبيعي أو عملية التكيف مع الوسط الطبيعي المادي وحسب، وإنما قوانين تطور نمط إنتاج الخيرات المادية والروحية التي تلّبي الحاجات المتنامية لأفراد المجتمع ايضاً. وبعبارة أخرى إنَّ ما يحدّد وعي الإنسان هو الوجود الاجتماعي. ومن هنا تنبع ضرورة فهم الطبيعة الاجتماعية ـ التاريخية للوعي الإنساني.
لقد أدرك العلماء الماركسيين، الذين سعوا إلى إقامة علم النفس على أسس الفلسفة المادية الجدلية والتاريخية أهمية هذا المدخل في دراسة النفس بسبب ارتباطه المباشر بطبيعتها وجوهرها. ولذا نبعت ضرورة تتبع الحالات والأشكال التي اتخذتها النفسية الانسانية عبر الحقب والعصور التي مرّت بها عملية نشوء الأحياء وارتقائها أولاً، ثم دراسة التاريخ الثقافي للبشرية بوصفه شرطاً لبلوغ النفس عند الإنسان مرتبة الوعي وتطورها الفردي تبعاً لتطور الأدوات والوسائل الثقافية للمجتمع ثانياً.
ان الحتمية التاريخية الاجتماعية في دراسة النفس الإنسانية تعد رداً على الداروينيين الذين لم يستطيعوا ان يجدوا في النفس الانسانية ما يميّزها عن النفس عند الحيوان سوى بعض الفروق الكمية. كما أنه في الوقت ذاته ردٌّ على اللا ماركيين الذين أعطوا عملية النشوء بعداً نفسياً، وأضفوا صفة الاطلاق على أهمية دور العامل النفسي والتطور الفردي في التغيرات التي تطرأ على النفس عند النوع الحيواني. وفي هذا يرى ليونتيف أنَّ من وجهة نظر هذا المدخل إلى النفس يتبدى التاريخ الواقعي لتطورها كتاريخ لتطور ذلك (الانقسام الثنائي ومن قَبْلُ الوحدة البسيطة للحياة التي ولدت نشأتها النفس البدائية لدى الحيوانات، والتي تجد في الأخير تعبيرها الكامل في الحياة الواعية للإنسان. ويُعَدُّ هذا التاريخ... انعكاساً لتاريخ تطور الحياة ذاتها، ويخضع لقوانينها العامة: قوانين الارتقاء البيولوجي خلال مراحل التطور البيولوجي، والقوانين الاجتماعية ـ التاريخية في مراحل التطور التاريخي).
ومن هذا المنظور يتناول علماء النفس الماركسي الظاهرة النفسية باعتبارها انعكاساً للعالم الخارجي. ان هذا الفهم يقدم مفتاحاً لحل مشكلات معايير نشوء النفس في مجرى تطور الحياة، والانتقال من مستوياتها الدنيا إلى مستوياتها العليا، وعلاقة الأفعال الانعكاسية الشرطية بالأفعال الانعكاسية غير الشرطية، والتغيرات الفردية والنوعية في النفس.
ان عملية الانعكاس عند الإنسان تتمّ بفضل بنيته العضوية، ومنها الجملة العصبية المعقدة، فالدماغ البشري هو مادة على جانب كبير للغاية من التطور، يمكّن الإنسان من إدراك ما يحيط به والتعرّف على الموضوعات والوقائع الخارجية وتنظّم علاقتها بها. وقد عَرَفَ هذا العضو الهام تطوراً كبيراً لدى انتقال البشر من مراحل التطور البيولوجي إلى مراحل التطور التاريخي الاجتماعي، أي لدى انتقالهم من الحياة البهيمية القطيعية إلى الحياة الاجماعية.
أصبحت نتائج النشاط الجماعي المشترك تنتقل من الآباء إلى الأبناء، ومن الكبار إلى الصغار عبر مراحل التاريخ الإنساني. وتتمثل هذه النتائج ـ الخبرات في الأدوات المستخدمة في ذلك النشاط واللغة والفن وقواعد السلوك. وتبعاً لذلك كانت تتطور قدرة الإنسان على عكس الواقع الموضوعي، وتزداد سيطرته على الظواهر الطبيعية، وتنمو إمكانيته على تنظيم سلوكه وتوجيه أفعاله.
وممّا تقدّم يقرر علماء النفس الماركسيين، أن ولادة الوعي اقترنت وبصورةٍ مباشرةٍ بالنشاط المادي التعاوني الذي بدأت بممارسته الأجيال الأولى من بني البشر. ومع ظهور حاجات جديدة لديهم في مجرى هذا النشاط ونشوء الكلام والأفعال الذهنية التي تمكنهم من التخطيط لأفعالهم الخارجية وتسبقهم وتتنبأ بنتائجها تكوّنت عندهم مختلف أنواع النشاط الذهني النظري التي سمحت لهم بالدخول إلى عمق الظواهر والوقائع الخارجية والتعرّف على صفاتها الجوهرية.
إن هذه المعطيات، جعلت علماء النفس الماركسيين، يذهبون إلى القول بأنّه: "في البدء كان الفعل"، كما كان يردّد غوته، اي من (الفعل للفكر)، ولكن التفكير ايضاً هو شكل جديد من أشكال معرفة الواقع الذي يمهد للفعل، اي للنشاط التحويلي الواعي. والقضية ان هناك تفاعل عميق بين الجانبين.
